الجمعة، 24 يونيو 2011

- محمد والحائر !





كان يجلس في غرفته ، نعم هذا هو وقت القرءاة لديه ،
كان ليلة البارحة يتناقش هو وأصدقاؤه حول مسألة اختلفت عليها المذاهب الأربعه ،
كان نقاشاً بسيطاً .. هادئاً .. وفيه من الاحترام ما قد يعتقد فيه الشخص الغريب انهم متنطعون في ذلك !

قرر إن يعيد قراءة المسألة من جديد ويعيد النظر فيها ، لعل في اختلاف الأئمة الأربعة شيئاً مشتركاً !

فرغ من كتابه ، وأخذ محموله وفتح البريد :
" لا جديد ، يبدوا انهم لا زالوا منشغلين في قراءة المسألة " .
أرسل لهم رسالة جماعيه :
" وجدت القاسم المشترك في المسألة ، أراكم اليوم بإذن الله في الاستراحه " ،
نزل إلى الصاله ورأى أمه منشغله في تجهيز المنزل لأن أخته خلال يومين سوف " تتملك " ..
ابتسم ، قبّل رأسها وطلب الرضا وخرج !
دخل المسجد ، وها هو يرفع آذان المغرب ، فرغ من صلاته وهمّ بالخروج للذهاب إلى الأستراحه ،
استوقفه أحدهم : " انت محمد بنت فلان الفلاني ؟ "
-" ايه نعم ، آمر أخوي "
- " تفضل معنا نبيك في شغله نص ساعه وراجعين "
شعر محمد ببعض الضيق ، ولم يرتح للأمر لكنه مجبر على ذلك فـ هيئتهم لا تدل على لصوص أو مخربين إنما تدل على شيء يشبه " المباحث " !
خرج معهم وركب في سيارتهم حتى وصلوا إلى مركز الشرطة وتكلم مع الضابط :
- " ممكن أعرف سبب تواجدي هنا ؟ "
- " انت محمد بن فلان "
- " ايه نعم "
- " عندك بعض الأخطاء وأمور مشتبه فيها ومحتاجين نتحقق من هالامور لكن مو اللحين ، راح ننقلك على مكان تلقى فيه أشباهك وبعدين نتفاهم على موضوعك "
- " أشباهي ؟!!! "
- " ايه أشباهك " !
صمت محمد وشعر ببعض الإهانة لكنه صمت ولم ينطق ..
خرج محمد وركب في سيارة أخرى يكتفه اثنان عن اليمين والشمال ،
وصلوا إلى حيث توقع محمد انه " الحائر " ..
شعر ببعض الضيق وتذكر أموراً عدة :
استراحة الشباب ، ملكة أخته ، أمه وأخواته بالبيت بدون رجال ، لا حول ولا قوة إلا بالله ..
حين دخل إلى الحائر طلب من العسكري هاتفاً لـ 5 دقائق وبعد جهاد وافق العسكري ،
تحدث مع أمه قائلاً :
" السلام عليكم ، قبل ما تتكلمين يا الغاليه وقبل ما تقلقين علي ، أنا في الحائر لمدة
بسيطة إن شاء الله ، اتصلي على خالي يجئ يأخذكم لبيت جدتي وان شاء الله قريب راجع ، دعواتك "

أغلق الهاتف وقام يدعوا إن لا يصيب والدته مكروه ، دخل العنبر 8 بصمت ..
توضأ وصلى فرض العشاء ودعى من كل قلبه إن يفرج همه وان يجعل سجنه نعمة لا نقمة ،
واقترب من أقرب سرير ودخل في غيبوبة نوميّة !!

ها هو أول صبح حائري يعيشه محمد ، استيقظ لصلاة الفجر ونظر حوله ،
لم يتعرف بعد على أحد ويشعر ببعض الخجل وهو لا يعرف المكان حتى ،
حينما استيقظ قبل الفجر ببضع ساعات ..
وجد إن البعض يصلي وبعضهم يقرأ في كتب وبعضهم يكتب في مسائل وبعضهم نائم وكلٌ في فلك يسبحون !

قام محمد ودخل دورة المياه وتوضأ وخرج ، كان مبللاً بالماء ، اقترب منه احدهم وابتسم له وناوله " منشفه " ليجفف نفسه بعد الوضوء ..
شعر محمد بالراحة تجاهه وقابله بـ ابتسامة اعرض قائلاً :
- " الله يعطيك العافيه "
- " العفوو ، وإذا تحب ممكن تأخذ سجادتي تصلي عليه لحد ما يأذن الفجر "
- " جزاك الله خير ، كأنك تحس بالحرج إلي فيني "
ضحك الرجل : " لا تخاف حنا مثل أخوانك هنا ، أنا صالح "
ضحك محمد : " أجل دامكم مثل أخواني الله يعينكم علي ، حياك الله "

ومضى محمد في صلاته ، فرغ من صلاته وصلى فرض الفجر وقام صالح اليه :
- " محمد أمش معاي " ..
ذهب محمد دون نقاش وجلس هو وجميع من في العنبر حلقة واحده وبدأ صالح بالحديث :
- " السلام عليكم يا أخوان ، راح أبدا مباشرة ، هذا أخونا محمد إلي وصل أمس وترا هو يحس ببعض الحرج يا حبذا تبتسمون عشان يفك معكم "
ابتسموا جميعاً ومنهم من ضحك وكل واحد منهم بدأ يُعرف بنفسه ،
ابتسم محمد في سرّه وقال كلمة :
" لقد دعوت الله سبحانه ليلة البارحة إن يجعل السجن نعمة لا نقمة لي وها أنا ارى أول بشاراة دعوتي في وجوهكم " ..

مضى أول شهرين وأم محمد لم ترى محمد كان يتصل بها أسبوعياً لكن الزيارة لا تزال ممنوعةً عنه ، تأجل موعد زفاف أخته حتى إشعار آخر ، ولا زال أصدقاؤة يترددون على الوزارة ورفع الشكاوي طلباً لمعرفة قضيته لكن الجواب الدائم :
" ما رفعت قضيته للمحكمه "
ذهبوا إلى الإمارة ، قابلوا المسؤولين ، تحدثوا معهم ، طلبوا الإفراج عنه لكن لا نقاش ..
ها هي 6 أشهر تمضي وفتحوا باب الزيارة لأهل محمد ، وها هو محمد يحضن أمه حتى كاد يخنقها .. لكن أمه لم تشعر إلا بأن قلبها يعلوا في سماء سرمديه !
سأل محمد خاله :
- " وش قالوا في موضوعي يا خال ؟ "
- " كل خير يا وليدي هانت هانت "
صمت محمد وعلم إن كلمة هانت تعني الكثير في قاموس دوائرنا الحكومية !

خرج محمد وهو يودع أمه وأخواته همس لـ أخته رنا :
- " راح أعوضك عن كل الزواج إلي خربته عليك بإذن الله "
ابتسمت أخته :
- " تدري إن طلعتك تسوى عندي الزواج وطوايف الزواج ؟ "
- " الله يقرّ عيوني بـ شوفتك عروس يا أخيتي " !

خرج محمد من عندهم وهو يشعر إن روحه ستخرج لا يريد إن يترك أمه وأخواته آلـ 5 لوحدهن ..
لكنه حين يتذكر إن خاله معهم يطمئن قلبه !
دخل العنبر وكل من في العنبر يسلم على محمد ويهمس في أذن محمد بـ كلمة :
" الله يقرّ عيونهم بطلعتك .. الله لا يحرمك شوفتهم .. الله يفرج عنك .. اجر وأنا أخوك أجر .. الخ " ..
محمد زاد اختناقه فـ أنزوى في زاوية العنبر وبدأ يصلي ..
كان يبكي بـ قهر وويل من قهر الرجال !
انهى صلاته بـ دعوة :
" اللهم اين استودعك نفسي وديني وأهلي وعرضي وكل ما كنت مسؤولاً عنه يوماً وتركته في نصف الطريق "

جاء العسكري إلى مدخل العنبر : " وقت العشاء " ،
خرجوا إلى العشاء وحين فرغوا وارادوا العودة إلى العنبر أمسك احدهم بـ محمد وقال :
- " انت محوّل للسجن الانفرادي "
- " طيب ليش ؟!! "
- " هذي أوامر عليا بدون أي نقاش " !
وسبحان الله على الأوامر العليا التي ما انتهت إلا عند اسمك يا محمد !
صمت محمد وكان يردد في سره " حسبي الله ونعم الوكيل " ..

بعد أسبوع أعادوا محمد إلى السجن الجماعي وقبل إن يدخل جاءه العسكري :
" محمد الفلاني ، فترة اتصالك الآن " .
اتصل بـ أمه وكان لديه 5 دقائق بتحدث بها فقط ، قالت أمه :
- " محمد يا وليدي رنا تبي تكلمك "
- " عطيني إياها يمه "
- " السلام عليكم محمد ، شخبارك يا أخوي ؟ عشاك بخير ومرتاح ؟ "
- " أبد الحمد لله على كل حال ، وأنتي شخبارك مع أمي والبنات ؟ ترا انتي وكيلتي بالبيت ههههه "
- " هههه لي الفخر وأنا أختك عموماً ما ودي أطوّل معك بس ودي أقولك خبر أتمنى ما يزعجك ، محمد انت علمتني إن كل شيء في الحياة قسمة ونصيب ، ونصيبي إن الله عوضني عن الزوج بأخو ما فيه احنّ من قلبه علي ، إلي بقوله إن ربي عوضني بك عن زوجي ، وزوجي الله ييسر له زوجة ثانية غيري "
- " وش تقولين يا رنا وش إلي صاير ؟ "
- " ولا شيء بس المعرس وأهله اعتذروا عن الزواج بسبب موضوعك ، بس صدقني يا محمد والله مو متضايقه أبد دام انهم تركوني عشانك أخوي الله بيعوضني عن إلي أحسن منهم "
شعر محمد بالغصّه في حلقه وقال لـ رنا :
" الله بيعوضك خير يا أخيتي الله بيعوضك خير "
ابتسمت رنا :
" وأنا هذا إلي أقوله "
ينطق العسكري أخيراً : " انتهت المده "
امتلئت الدموع في عين محمد وقال :
" طيب رنا سلمي على أمي وخالي والبنات ، عسى صوتك للجنّة يا أخيتي "
واقفل الهاتف .....
مضى محمد إلى العنبر وهو يشعر بالغصّه تخنقه وتحيله من فتى في عز الفتوة إلى شيخ هرم دار الدهر عليه وإذاقه من الويلات ما الله به عليم ..
دخل العنبر ولم يتكلم مع احدهم لكنهم لاحظوا أصفرار وجه محمد وعيناه المحمرتان فلم يريدوا إحراجه .. واقبل محمد كما هي عادته على الصلاة وانهى صلاته بـ دعوة :
" اللهم عوضها بـ جنّة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين " ..

بعد شهر رُفع طلب محمد إلى الجهة العليا وطلب خال محمد وأصدقاؤه الدخول على المسؤول ، حين ذلك وعدهم إن محمد خلال شهر على الأكثر سوف يخرج ، شعروا إن الأمر أشبه بالحلم ، غياب سنة يا محمد هي أمرّ السنين على قلوب هؤلاء وأخيراً سـ تقرّ العين به ..
اتصلوا بـ محمد وأخبروه بالخبر وفرح كثيراً بالخبر ،
أمه بدأت تجهز لخروجه واقتنت الهدايا ورتبت لـ حفلة ستقيمها على شرف ابنها .. الخ !

ها هي 4 سنوات تمضي على محمد في سجن الحائر ،
لا وعود موثقة من أحد ، ولا خطابات موجهة لـ أحد بعينه ،
ومحمد ها هو يعتاد على الحائر حتى إن البشارات بـ خروجه لم تعد تشكل لديه فارقاً إن تحققت أو لا ،
وأم محمد لا تزال بعد كل بشارة تجهز العدة لـ حفل يليق بابنها الوحيد ،
وأخواته لم يتقدم لـ خطبتهن أي أحد ..
ورنا ها هي على مشارف الـ 29 والباب أصبح شبه مغلق عنها ،
وأصدقاؤه لا زالوا على اجتماع الاستراحه يتباحثون فيما بينهم إلى من سيتوجهون هذا الاسبوع ؟ آلى وكيل الوزارة أم إلى الوزير أو إلى الإمارة أم ... الخ ! ،
وخال محمد ها هو يرقد على فراش المرض ! .. ومحمد لا يزال يصلي ويدعو !



تنويه لـ عابر :

* لست مؤلفة هذه المرة ، قصة حبكتها قد تكون حقيقة وقد لا تكون ! ،
لأن سجوننا طفقت وفاضت من كثرة نزلائها من " ذوي اللحى " !!

* لم اكتب هذه القصه إلا عن قناعة وخلفية ودراية عن موضوع " الحائر " وما تحتويه القضايا هناك !

* أتمنى إن لا تنظروا إلى الموضوع نظرة سياسية وليس لي هذا المجال أبداً ..
بل إنظروا اليه بـ عين الانسانية لا أكثر !





* تمت في الـ 16 / 7 / 1432 هـ !